عقد الفل مشرفة
عدد المساهمات : 412 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 09/05/2010 العمر : 39
| موضوع: خطبة عايض القرني المؤذن الأول (بلال بن رباح)*الجزء الثاني الثلاثاء يونيو 01, 2010 12:40 pm | |
| الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فلازال الحديث مع بلال ولازال الحب لبلال ولا زال الذكر لبلال.
انتهى الفصل الأول، وقد أعفى خليفة المسلمين أبو بكر الصديق بلالاً من الأذان، تركه الصديق ليرتاح، لأن الإمام قد مات.
وتمر الأيام، ويفتح الله على المسلمين الفتوح، ويذهب بلال يشارك بروحه وجسمه ونفسه في إعلاء كلمة لا إله إلا الله، يصل إلى الشام فاتحاً مقاتلاً، يجاهد المشركين، ويعلم الناس دينهم، وينتظر المنية حتى يلحق بحبيبه في الجنة.
وهنا مواقف مؤثرة، سجلها التاريخ، ووقف أمامها، وأنصت لها.
جاء عمر من المدينة بدابته ومعه مولاه، ليدخل بيت المقدس، يذهب إلى هناك بثوبه الممزق المرقع، ولكنه يحمل الدنيا في يديه.
قل للملوك تنحّوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
يأتي بهذا الثوب، ليصف العدل، ويمثل حقوق الإنسان، ويظهر الرحمة والقوة في آنٍ واحد.
ويجتمع المؤمنون لهذا الفتح العظيم، الصحابة، وكبار الصحابة، وأهل العهد المكي، وأهل بدر، وأهل بيعة العقبة، أساتذة الدنيا كلّها، جاءوا لحضور هذا اليوم المشهود وتحين صلاة الظهر، فيتذكر عمر تلك الأيام الخوالي، التي عاشوها مع رسول الله، عليه الصلاة والسلام، فيقول عمر لبلال رضي الله عنهما: أسألك بالله يا بلال أن تؤذن لنا.
فقال: اعفني يا أمير المؤمنين.
قال: أسألك أن تذكرنا أيامنا الأولى.
فقال الصحابة: يا بلال اتق الله، سألك أمير المؤمنين.
فقام بلال، يتحامل على جسمه، فقد أصبح شيخاً كبيراً، وارتفع صوته بالأذان، فإذا بصوت عمر يسابقه بالبكاء، ثم بكى كبار الصحابة، وبكى الجيش كله، وارتج المسجد الأقصى بالبكاء.
إن بلالاً ذكرهم شيئاً، ذكرهم تاريخاً، ذكرهم معلماً وقائداً أحبهم وأحبوه، فلا إله إلا الله ما أعظم الذكريات، ولا إله إلا الله ما أجمل تلك الأيام عاشها أولئك المؤمنون، يتمتعون برؤية نبيهم عليه الصلاة والسلام، ويتلقون عنه الوحي من السماء.
وعاد بلال إلى الشام، وانقطع عن المدينة، بعد أن خلت من نبيها عليه الصلاة والسلام، وأصبح بلال شيخاً كبيراً، وفي ليلة من الليالي، وبينا هو نائم، زاره الرسول في النوم، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيحين: ((من رآني في المنام فقد رآني))[1]، ويقول: ((من رآني في المنام فسوف يراني فإن الشيطان لا يتمثل بي))[2].
رأى بلال حبيبه، رأى شيخه، رأى الإمام، رآه بصورته، رآه بنوره وبشاشته يحاسبه ويعاتبه، هجرتنا يا بلال، ألا تزورنا، ما أعظمها من كلمات.
لعل عتبك محمودٌ عواقبه وربما صحّت الأجسام بالعلل
أو كما قيل:
يا من يعزّ علينا أن نفارقهم وجاننا كل شيء بعدكم عدم
إذا ترحّلت عن قومٍ وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم
هجرتنا يا بلال... ألا تزورنا في المدينة!!
واستيقظ بلال باكياً وسط الليل، وتوضأ، وصلى ركعتين، وأسرج راحلته لأنه لا يستطيع أن يتأخر عن أمر النبي عليه الصلاة والسلام، حياً كان أو ميتاً، لبيك يا رسول الله.
ركب بلال ناقته، وذهب إلى حبيبه عليه الصلاة والسلام، مشى وسط الصحاري والقفار.
جزى الله الطريق إليك خيراً وإن كنا تعبنا في الطريق
وصل بلال إلى المدينة ليلاً فوجد الناس نياماً، وأتى الروضة فسلم وبكى، وعاش في عالم من الذكريات والعبر والدروس، ثم حان أذان الفجر، ولحكمة يعلمها الله تبارك وتعالى، تأخر مؤذن المدينة، وتحرج بلال فهو لا يستطيع أن يترك الناس نياماً حتى تفوت عليهم الصلاة.
فصعد المنارة وأذن للصلاة، حتى إذ وصل إلى محمد رسول الله، انفجر بالبكاء، وقام الناس من المدينة، وأخذوا يبكون مع بكاء بلال .
وتتكرر المشاهد، وتتلاقى الصور، ويأتي بلال من جديد، يعانق أحبابه وأصحابه ويعانقونه، في مشهد عظيم من مشاهد الحب والوفاء.
وانتهت مهمة بلال في المدينة، لقد أتى لمهمة خاصة، ليجيب دعوة خاصة، من حبيب خاص، وعاد إلى الشام، وهناك أتته المنية فأخذ ينشد وهو في سكرات الموت.
غداً نلقى الأحبة محمد وحزبه
ومن الذي لا يفرح، وهو يعلم أنه بعد لحظات، سوف يلقى محمداً عليه الصلاة والسلام، وأبا بكر وعمر، والأخيار من الناس. نعم...
غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه
ومات بلال...
يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي [الفجر:27-30].
وفي قصة المؤذن الأول دروس:
أولاً: إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13].
فالقرشي الذي عارض الرسالة في النار، والحبشي الذي آمن بالرسالة في مقعد صدق عن مليك مقتدر.
ثانياً: إن هذا الدين لا ينتصر بكثرة العدد، ولا يعتمد على أصحاب المناصب والهيئات والأموال، ولكنه يبقى مكانه، ويأتي إليه من يحبه، يقول أبو جهل: كيف يهتدي بلال وأنا سيد بني مخزوم، وهو عبد حبشي لو كان خيراً ما سبقونا إليه [الأحقاف:11]. والجواب: الله أعلم حيث يجعل رسالته [الأنعام:124]. أليس الله بأعلم بالشاكرين [الأنعام:53]. بلى.
ثالثاً: تظهر من قصة بلال وغيرها من قصص الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، حنكة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعرفته بالفروق الذاتية لكل إنسان، واختلاف المواهب الشخصية والاستعدادات النفسية بين صحابي وآخر.
فقد أعطى الأذان لبلال لأنه الأصلح لذلك، وأعطى الراية لخالد في المعركة لأنه سيف الله المسلول، والخلافة لأبي بكر، والقافية والأدب لحسان، ومدرسة الفرائض وتوزيع المواريث لزيد بن ثابت، والقضاء وهيئة الاستشارة لعلي بن أبي طالب: قد علم كلّ أناسٍ مشربهم [البقرة:60]. وهذا الأمر يفوت على كثير من المربين والدعاة والمعلمين.
رابعاً: إن مبادئنا تبدأ من بلال وإنها تعلن صريحة قوية من على المنابر، فليس عندنا أسرار، ولا شيء نخفيه ونتكتم عليه، بل نحن واضحون وضوح الشمس في النهار، قال تعالى: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين [الحجر:94].
خامساً: من أراد أن يهدي الناس، فليزرع في قلوبهم الحب أولاً، فإذا استطاع ذلك ملك زمام القلوب، فليفعل بها ما يشاء.
وإن من يتصور أنه سوف يهدي الناس بالعصا، وسوف يسوقهم بالضرب والشتم، فقد أخطأ سواء السبيل، وقد أفلت الناس من يديه فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر [آل عمران:159].
إن سر نجاح دعوته عليه الصلاة والسلام، أنه جعل الناس يحبونه حباً، تتقطع له القلوب، وتنقاد له الأجساد، فقد كان أباً لليتامى، ومعيناً للأرامل والمساكين فأحبته القلوب، وعشقته الأفئدة، وانقادت له الأبدان.
عباد الله:
صلوا على الإمام، وترحموا على المؤذن، اللهم صلّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك ومنك يا أرحم الراحمين.
, , , , | |
|